فصل: ذكر انهزام جلال الدين من كيقباذ والأشرف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة دام الغلاء في ديار الجزيرة، ودامت الأسعار تزيد قليلاً وتنقص قليلاً، وانقطع المطر جميع شباط وعشرة أيام من آذار، فازداد الغلاء، فبلغت الحنطة كل مكوكين بدينار وقيراطين بالموصل، والشعير كل ثلاثة مكاكيك بالموصلي بدينار وقيراطين أيضاً، وكل شيء بهذا السنة في الغلاء.
وفيها، في الربيع، قل لحم الغنم بالموصل، وغلا سعره، حتى بيع كل رطل لحم بالبغدادي بحبتين بالصنجة، وربما زاد في بعض الأيام على هذا الثمن.
وحكى لي من يتولى بيع الغنم بالموصل أنهم باعوا خروفاً واحداً لا غير، وفي بعضها خمسة أرؤس، وفي بعضها ستة، وأقل وأكثر، وهذا ما لم يسمع بمثله، ولا رأيناه في جميع أعمارنا، ولا حكي لنا مثله لأن الربيع مظنة رخص اللحم بها، لأن التركمان والأكراد والكيلكان ينتقلون من الأمكنة التي شتوا بها إلى الزوزان فيبيعون الغنم رخيصاً.
وكان اللحم كل سنة في هذا الفصل كل ستة أرطال وسبعة بقيراط، صار هذه السنة الرطل بحبتين.
وفيها عاشر آذار، وهو العشرون من ربيع الأول، سقط الثلج بالموصل مرتين، وهذا غريب جداً لم يسمع بمثله، فأهلك الأزهار التي خرجت كزهر اللوز، والمشمش، والإجاص، والسفرجل وغيرها، ووصلت الأخبار من العراق جميعه مثل ذلك، فهلكت به أزهارها والثمار، وهذا أعجب من حال ديار الجزيرة والشام فإنه أشد حراً من جميعها.
وفيها ظفر جمع من التركمان، كانوا بأطراف أعمال حلب، بفارس مشهور من الفرنج الدواية بأنطاكية فقتلوه، فعلم الداوية بذلك فساروا وكبسوا التركمان، فقتلوا منهم وأسروا، وغنموا من أموالهم، فبلغ إلى أتابك شهاب الدين المتولي لأمور حل، فراسل الفرنج، وتهددهم بقصد بلادهم، واتفق أن عسكر حلب قتلوا فارسين كبيرين من الداوية أيضاً، فأذعنوا بالصلح، وردوا إلى التركمان كثيراً من أموالهم وحريمها وأسراهم.
وفيها، في رجب، اجتمع طائفة كثيرة من ديار بكر، وأرادوا الإغارة على جزيرة ابن عمر، وكان صاحب الجزيرة قد قتل، فلما قصدوا بلد الجزيرة اجتمع أهل قرية كبيرة من بلد الجزيرة اسمها سلكون، ولقوهم من ضحوة النهار إلى العصر، وطال القتال بينهم، ثم حمل أهل القرية على الأكراد فهزموهم وقتوا فيهم، وخرجوا ونهبوا ما معهم وعادوا سالمين. ثم دخلت:

.سنة خمس وعشرين وستمائة:

.ذكر الخلف بين جلال الدين وأخيه:

في هذه السنة خاف غياث الدين بن خوارزم شاه، وهو أخو جلال الدين من أبيه، أخاه، وخافه معه جماعة من الأمراء، واستشعروا منه، وأرادوا الخلاص منه، فلم يتمكنوا من ذلك إلى أن خرجت التتر، واشتغل بهم جلال الدين، فهرب غياث الدين ومن معه، وقصدوا خوزستان، وهي من بلاد الخليفة، وأرادوا الدخول في طاعة الخليفة، فلم يمكنهم النائب بها من الدخول إلى البلد، مخافة أن تكون هذه مكيدة، فبقي هناك، فلما طال عليه الأمر فارق خوزستان وقصد بلاد الإسماعيلية، فوصل إليهم، واحتمى بهم واستجار بهم.
وكان جلال الدين قد فرغ من أمر التتر وعاد إلى تبريز، فأتاه الخبر وهو بالميدان يلعب بالكرة أن أخاه قد قصد أصفها، فألقى الجوكان من يده، وسار مجداً، فسمع أن أخاه قد قصد الإسماعيلية ملتجئاً إليهم، ولم يقصد أصفهان، فعاد إلى بلاد الإسماعيلية لينهب بلادهم إن لم يسلموا إليه أخاه، وأرسل يطلبه من مقدم الإسماعيلية، فأعاد الجواب يقول: إن أخاك قد قصدنا، وهو سلطان ابن سلطان، ولا يجوز لنا أن نسلمه، لكن نحن نتركه عندنا ولا نكنه أن يأخذ شيئاً من بلادك، ونسألك أن تشفعني فيه والضمان علينا بما قلنا، ومتى كان منه ما تكره في بلادك، فبلادنا حينئذ بين يديك تفعل فيها ما تختار. فأجابهم إلى ذلك، واستحلفهم على الوفاء بذلك، وعاد عنهم وقصد خلاط، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر الحرب بين جلال الدين والتتر:

في هذه السنة عاود التتر الخروج إلى الري، وجرى بينهم وبين جلال الدين حروب كثيرة اختلف الناس علينا في عددها، كان أكثرها عليه، وفي الأخير كان الظفر له.
وكانت أول حرب بينهم عجائب غريبة، وكان هؤلاء التتر قد سخط ملكهم جنكزخان على مقدمهم، وأبعده عنه، وأخرجه من بلاده، فقصد خراسان، فرآها خراباً، فقصد الري ليتغلب على تلك النواحي والبلاد، فلقيه بها جلال الدين، فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم جلال الدين وعاد ثم انهزم، وقصد أصفهان، وأقام بنيها وبين الري، وجمع عساكره ومن في طاعته، فكان فيمن أتاه صاحب بلاد فارس، وهو ابن أتابك سعد ملك بعد وفاة أبيه، كما ذكرناه، وعاد جلال الدين إلى التتر فلقيهم.
فبينما هم مصطفون كل طائفة مقابل الأخرى انعزل غياث الدين أخو جلال الدين فيمن وافقه من الأمراء على مفارقة جلال الدين، واعتزلوا، وقصدوا جهة ساروا إليها، فلما رآهم التتر قد فارقوا العسكر ظنوهم يريدون أن يأتوهم من وراء ظهورهم ويقاتلوهم من جهتين، فانهزم التتر لهذا الظن وتبعهم صاحب بلاد فارس.
وأما جلال الدين فإنه لما رأى مفارقة أخيه إياه ومن معه من الأمراء ظن أن التتر قد رجعوا خديعة ليستدرجوه، فعاد منهزماً، ولم يجسر أن يدخل أصفهان لئلا يحصره التتر، فمضى إلى سميرم.
وأما صاحب فارس فلما أبعد في أثر التتر، ولم ير جلال الدين ولا عسكره معه، خاف التتر فعاد عنهم.
وأما التتر فلما لم يروا في آثارهم أحداً يطلبهم وقفوا، ثم عادوا إلى أصفهان، فلم يجدوا في طريقهم من يمنعهم، فوصلوا إلى أصفهان فحصروها، وأهلها يظنون أن جلال الدين قد عدم، فبينما هم كذلك والتتر يحصرونهم إذ وصل قاصد من جلال الدين إليهم يعرفهم سلامته، ويقول: إني أدور حتى يجتمع إلي من سلم من العسكر وأقصدكم ونتفق أنا وأنتم على إزعاج التتر وترحيلهم عنكم.
فأرسلوا إليه يستدعونه إليهم، ويعدونه النصرة والخروج معه إلى عدوه، وفيهم شجاعة عظيمة، فسار إليهم، واجتمع بها، وخرج أهل أصفهان معه، فقاتلوا التتر، فانهزم التتر أقبح هزيمة، وتبعهم جلال الدين إلى الري يقتل ويأسر، فلما أبعدوا عن الري أقام بها، وأرسل إليه ابن جنكزخان يقول: إن هؤلاء ليسوا من أصحابنا، إنما نحن أبعدناهم عنا، فلما أمن جانب جنكزخان أمن وعاد إلى أذربيجان.

.ذكر خروج الفرنج إلى الشام وعمارة صيدا:

وفي هذه السنة خرج كثير من الفرنج من بلادهم، التي هي في الغرب من صقلية وما وراءها من البلاد، إلى بلادهم التي بالشام: عكا وصور وغيرهما من ساحل الشام، فكثر جمعهم، وكان قد خرج قبل هؤلاء جمع آخر أيضاً إلا أنهم لم تمكنهم الحركة والشروع في أمر الحب لأجل أن ملكهم الذي هو المقدم عليهم هو ملك الألمان، ولقبه أنبرور، قيل: معناه ملك الأمراء، ولأن المعظم كان حياً، وكان شهماً شجاعاً مقداماً، فلما توفي المعظم، كما ذكرناه، وولي بعده ابنه وملك دمشق طمع الفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا، وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمروها، واستولوا عليها.
وإنما تم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها، تبنين وهونين وغيرهما. وقد تقدم ذكر ذلك قبل مستقصى؛ فعظمت شوكة الفرنج، وقوي طمعهم، واستولى في طريقه على جزيرة قبرس، وملكها، وسار منها إلى عكا، فارتاع المسلمون لذلك، والله تعالى يخذله وينصر المسلمين بمحمد وآله؛ ثم إن ملكهم أنبرور وصل إلى الشام.

.ذكر ملك كيقباذ أرزنكان:

وفي هذه السنة ملك علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان، وهو صاحب قونية، وأقصرا، وملطية، وغيرها من بلاد الروم، أرزنكان.
وسبب ملكه إياها أن صاحبها بهرام شاه كان قد طال ملكه لها، وجاوز ستين سنة، توفي ولم يزل في طاعة قلج أرسلان وأولاده بعده، فلما توفي ملك بعده ولده علاء الدين داود شاه، فأرسل إليه كيقباذ يطلب منه عسكراً ليسير معه إلى مدينة أرزن الروم ليحصرها، ويكون هو مع العسكر، ففعل ذلك، وسار في عسكره إليه، فلما وصل قبض عليه، وأخذ مدينة أرزنكان منه، وله حصن من أمنع الحصون اسمه كماخ، وفيه مستحفظ لداود شاه، فأرسل إليه ملك الروم يحصره، فلم يقدر العسكر على القرب منه لعلوه وارتفاعه وامتناعه، فتهدد داود شاه إن لم يسلم كماخ، فأرسل إلى نائبه في التسليم، فسلم القلعة إلى كيقباذ.
وأراد كيقباذ المسير إلى أرزن الروم ليأخذها وبها صاحبها ابن عمه طغرل شاه بن قلج أرسلان، فلما سمع صاحبها بذلك أرسل إلى الأمير حسام الدين علي، النائب عن الملك الأشرف بخلاط، يستنجده، وأظهر طاعة الأشرف، فسار حسام الدين فيمن عنده من العساكر، وكان قد جمعها من الشام، وديار الجزيرة، خوفاً من ملك الروم، خافوا أنه إذا ملك أرزن الروم يتعدى، ويقصد خلاط، فسار الحاجب حسام الدين إلى الروم ومنع عنها.
ولما سمع كيقباذ بوصول العساكر إليها لم يقدم على قصدها، فسار من أرزنكان إلى بلاده، وكان قد أتاه الخبر أن الروم الكفار المجاورين لبلاده قد ملكوا منه حصناً يسمى صنوب، وهو من أحصن القلاع، مطل على البحر السياه بحر الخزر، فلما وصل إلى بلاده سير العسكر إليه وحصره براً وبحراً، فاستعاده من الروم، وسار إلى أنطاكية ليشتي بها على عادته.

.ذكر خروج الملك الكامل:

في هذه السنة، في شوال، سار الملك الكامل محمد ابن الملك العادل، صاحب مصر، إلى الشام، فوصل إلى البيت المقدس، حرسه الله تعالى، وجعله دار الإسلام أبداً؛ ثم سار عنه، وتولى بمدينة نابلس، وشحن على تلك البلاد جميعها، وكانت من أعمال دمشق، فلما سمع الأشرف يستنجده، ويطلبه ليحضر عنده بدمشق، فسار إليه جريدة، فدخل دمشق.
فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم لعلمه أن البلد منيع، وقد صار به من يمنعه ويحميه؛ وأرسل إليه الملك الأشرف يستعطفه، ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة له، وموافقة لأغراضه، والاتفاق معه على منع الفرنج عن البلاد، فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه، وقد عمروا صيدا، وبعض قيسارية، ولم يمنعوا، وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما ينقض ذلك الذكر الجميل الذي ادخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى؟ ثم إنهم ما يقنعون حينئذ بمن أخذوه، ويتعدون إلى غيره، وحيث قد حضرت أنت فأنا أعود إلى مصر، واحفظ أنت البلاد، ولست بالذي يقال عني إني قاتلت أخي، وحصرته، حاشا لله تعالى.
وتأخر عن نابلس نحو الديار المصرية، ونزل تل العجول، فخاف الأشرف والناس قاطبة بالشام، وعلموا أنه إن عاد استولى الفرنج على البيت المقدس وغيره مما يجاوره، لا مانع دونه، فترددت الرسل، وسار الأشرف بنفسه إلى الكامل أخيه، فحضر عنده، وكان وصلوه ليلة عيد الأضحى، ومنعه من العود إلى مصر، فأقام بمكانها.

.ذكر نهب جلال الدين بلاد أرمينة:

في هذه السنة وصل جلال الدين خوارزم شاه إلى بلاد خلاط، وتعدى خلاط إلى صحراء موش، وجبل جور، ونهب الجميع، وسبى الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وخرب القرى، وعاد إلى بلاده.
ولما وصل الخبر إلى البلاد الجزرية: حران وسروج وغيرهما، أنه قد جاز خلاط إلى جور، وأنه قد قرب منهم، خاف أهل البلاد أن يجيء إليهم، لأن الزمان كان شتاء، وظنوا أنه يقصد الجزيرة ليشتي بها، لأن البرد بها ليس بالشديد، وعزموا على الانتقال من بلادهم إلى الشام، ووصل بعض أهل سروج إلى منبج من أرض الشام، فأتاهم الخبر أنه قد نهب البلاد وعاد، فأقاموا، وكان سبب عوده أن الثلج سقط ببلاد خلاط كثيراً، لم يعهد مثله، فأسرع العود.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة رخصت الأسعار بديار الجزيرة جميعها، وجاءت الغلات التي لهم من الحنطة والشعير جيداً، إلا أن الرخص لم يبلغ الأول الذي كان قبل الغلاء، إنما صارت الحنطة كل خمسة مكاكيك بدينار، والشعير كل سبعة عشر مكوكاً بالموصلي بدينار. ثم دخلت:

.سنة ست وعشرين وستمائة:

.ذكر تسليم البيت المقدس إلى الفرنج:

في هذه السنة، أول ربيع الآخر، تسلم الفرنج، لعنهم الله، البيت المقدس صلحاً، أعاده الله إلى الإسلام سريعاً.
وسبب ذلك ما ذكرناه سنة خمس وعشرين وستمائة من خروج الأنبرور، ملك الفرنج، في البحر من داخل بلاد الفرنج إلى ساحل الشام، وكانت عساكره قد سبقته، ونزلوا بالساحل، وأفسدوا فيما يجاورهم من بلاد المسلمين، ومضى إليهم، وهم بمدينة صور، طائفة من المسلمين يسكنون الجبال المجاورة لمدينة صور وأطاعوهم، وصاروا معهم، وقوي طمع الفرنج بموت الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب دمشق.
ولما وصل الأنبرور إلى الساحل نزل بمدينة عكا، وكان الملك الكامل، رحمه الله تعالى، ابن الملك العادل، صاحب مصر، قد خرج من الديار المصرية يريد الشام بعد وفاة أخيه المعظم، وهو نازل بتل العجول، يريد أن يملك دمشق من الناصر داود ابن أخيه المعظم، وهو صاحبها يومئذ، وكان داود لما سمع بقصد عمه الملك الكامل له قد أرسل إلى عمه الملك الأشرف، صاحب البلاد الجزرية، يستنجده، ويطلب منه المساعدة على دفع عمه عنه، فسار إلى دمشق، وترددت الرسل بينه وبين أخيه الملك الكامل في الصلح، فاصطلحا، واتفقا، وسار الملك الأشرف إلى الملك الكامل واجتمع به.
فلما اجتمعا ترددت الرسل بينهما وبين الأنبرور، ملك الفرنج، دفعات كثيرة، فاستقرت القاعدة على أن يسلموا إليه البيت المقدس ومعه مواضع يسيرة من بلاده، ويكون باقي البلاد مثل الخليل، ونابلس، والغور، وملطية، وغير ذلك بيد المسلمين، ولا يسلم إلى الفرنج إلا البيت المقدس والمواضع التي استقرت معه.
وكان سور البيت المقدس خراباً ق خربه الملك المعظم، وقد ذكرنا ذلك، وتسلم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين.

.ذكر ملك الملك الأشرف مدينة دمشق:

وفي هذه السنة يوم الاثنين ثاني شعبان ملك الملك الأشرف ابن الملك العادل مدينة دمشق من ابن أخيه صلاح الدين داود بن المعظم.
وسبب ذلك ما ذكرناه أن صاحب دمشق لما خاف من عمه الملك الكامل أرسل إلى عمه الأشرف يستنجده، ويستعين به على دفع الكامل عنه، فسار إليه من البلاد الجزرية، ودخل دمشق، وفرح به صاحبها وأهل البلد، وكانوا قد احتاطوا، وهم يتجهزون للحصار، فأمر بإزالة ذلك، وترك ما عزموا عليه من الاحتياط، وحلف لصاحبها على المساعدة والحفظ له ولبلاده عليه، وراسل الملك الكامل واصلحا وظن صاحب دمشق أنه معهما في الصلح.
وسار الأشرف إلى أخيه الكامل، واجتمعا في ذي الحجة من سنة خمس وعشرين، يوم العيد، وسار صاحب دمشق إلى بيسان وأقام بها، وعاد الملك الأشرف من عند أخيه، واجتمع هو وصاحب دمشق، ولم يكن الأشرف في كثرة من العسكر، فبينما هما جالسان في خيمة لهما إذ قد دخل عز الدين أيبك، مملوك المعظم الذي كان صاحب دمشق، وهو أكبر أمير مع ولده، فقال لصاحبه داود: قم اخرج وإلا قبضت الساعة؛ فأخرجه، ولم يمكن الأشرف منعه لأن أيبك كان قد أركب العسكر الذي لهم جميعه، وكانوا أكثر من الذين مع الأشرف، فخرج داود وسار هو وعسكره إلى دمشق.
وكان سبب ذلك أن أيبك قيل له: إن الأشرف يريد القبض على صاحبه وأخذ دمشق منه، ففعل ذلك، فلما عادوا وصلت العساكر من الكامل إلى الأشرف، وسار فنازل دمشق وحصرها، وأقام محاصراً لها إلى أن وصل إليه الملك الكامل، فحينئذ اشتد الحصار، وعظم الخطب على أهل البلد، وبلغت القلوب الحناجر.
وكان من أشد الأمور على صاحبها أن المال عنده قليل لأن أمواله بالكرك، ولوثوقه بعمه الأشرف لم يحضر منها شيئاً فاحتاج إلى أن باع حلى نسائه وملبوسهن، وضاقت الأمور عليه، فخرج إلى عمه الكامل وبذل له تسليم دمشق وقلعة الشوبك على أن يكون له الكرك والغور وبيسان ونابلس، وأن يبقي على أيبك قلعة صرخد وأعمالها.
وتسلم الكامل دمشق، وجعل نائبه بالقلعة إلى أن سلم إليه أخوه الأشرف حران والرها والرقة وسروج ورأس عين من الجزيرة، فلما تسلم ذلك سلم قلعة دمشق إلى أخيه الأشرف، فدخلها، وأقام بها، وسار الكامل إلى الديار الجزرية فأقام بها إلى أن استدعى أخاه الأشرف بسبب حصر جلال الدين ابن خوارزم شاه مدينة خلاط، فلما حضر عنده بالرقة عاد الكامل إلى ديار مصر، وأما الأشرف فكان منه ما نذكره، إن شاء الله تعالى.

.ذكر القبض على الحاجب علي وقتله:

وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك، وهو أمير كبير في دولته، إلى مدينة خلاط، وأمره بالقبض على الحاجب حسام الدين علي بن حماد، وهو المتولي لبلاد خلاط والحاكم فيها من قبل الأشرف.
ولم نعلم شيئاً يوجب القبض عليه، لأنه كان مشفقاً عليه، ناصحاً له، حافظاً لبلاده، وحسن السيرة مع الرعية، ولقد وقف هذه المدة الطويلة في وجه خوارزم شاه جلال الدين، وحفظ خلاط حفظاً يعجز غيره عنه، وكان مهتماً بحفظ بلاده، وذاباً عنها، وقد تقدم من ذكر قصده بلاد جلال الدين والاستيلاء على بعضها ما يدل على همة عالية، وشجاعة تامة، وصار لصاحبه به منزلة عظيمة، فإن الناس يقولون: بعض غلمان الملك الأشرف يقاوم خوارزم شاه.
وكان رحمه الله كثير الخير والإحسان لا يمكن أحداً من ظلم، وعمل كثيراً من أعمال البر من الخانات في الطرق، والمساجد في البلاد، وبنى بخلاط بيمارستاناً وجامعاً، وعمل كثيراً من الطرق، وأصلحها كان يشق سلوكها.
فلما وصل أيبك إلى خلاط قبض عليه، ثم قتله غيلة، لأنه كان عدوه، ولما قتل ظهر أثر كفايته، فإن جلال الدين حصر خلاط بعد قبضه وملكها، على ما نذكه إن شاء الله، ولم يمهل الله أيبك بل انتقم منه سريعاً، فإن جلال الدين أخذ أيبك أسيراً لما ملك خلاط مع غيره من الأمراء، فلما اصطلح الأشرف وجلال الدين أطلق الجميع، وذكر أن أيبك قتل.
وكان سبب قتله أن مملوكاً للحاجب علي كان قد هرب إلى جلال الدين، فلما أسر أيبك طلبه ذلك المملومك من جلال الدين ليقتله بصاحبه الحاجب علي، فسلمه إليه فقتله، وبلغني أن الملك الأشرف رأى في المنام كأن الحاجب علياً قد دخل إلى مجلس فيه أيبك فأخذ منديلاً وجعله في رقبة أيبك وأخذه وخرج، فأصبح الملك الأشرف وقال: قد مات أيبك، فإني رأيت في المنام كذا وكذا.

.ذكر ملك الكامل مدينة حماة:

وفي هذه السنة أواخر شهر رمضان، ملك الملك الكامل مدينة حماة. وسبب ذلك أن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر، وهو صاحب حماة، توفي، على ما نذكره، وملا حضرته الوفاة حلف الجند وأكابر البلد لولده الأكبر، ويلقب بالملك المظفر، وكان قد سيره أبوه إلى الملك الكامل، صاحب مصر، لأنه كان قد تزوج بابنته، وكان لمحمد ولد آخر اسمه قلج أرسلان، ولقبه صلاح الدين، وهو بدمشق، فحضر إلى مدينة حماة فسلمت إليه، واستولى على المدينة وعلى قلعتها، فأرسل الملك الكامل يأمره أن يسلم البلد إلى أخيه الأكبر، فإن أباه أوصى له به، فلم يفعل، وتردد الرسل في ذلك إلى الملك المعظم، صاحب دمشق، فلم تقع الإجابة.
فلما توفي المعظم، وخرج الكامل إلى الشام وملك دمشق، سير جيشاً إلى حماة فحصرها ثالث شهر رمضان، وكان المقدم على هذا الجيش أسد الدين شيركوه، صاحب حمص، وأمير كبير من عسكره يقال له فخر الدين عثمان، ومعهما ولد محمد بن تقي الدين محمد الذي كان عند الكامل، فبقي الحصار على البلد عدة أيام.
وكان الملك الكامل قد سار عن دمشق ونزل على سلمية يريد العبور إلى البلاد الجزرية، حران وغيرها، فلما نازلها قصده صاحب حماة صلاح الدين، ونزل إليه من قلعته، ولم يكن لذلك سبب إلا أمر الله تعالى، فإن صلاح الدين قال لأصحابه: أريد النزول إلى الملك الكامل، فقالوا له: ليس بالشام أحصن من قلعتك، وقد جمعت من الذخائر ما لا حد له، فلأي شيء تنزل إليه؟ ليس هذا برأي، فأصر على النزول، وأصروا على منعه، فقال في آخر الأمر: اتركوني أنزل، وإلا ألقيت نفسي من القلعة؛ فحينئذ سكتوا عنه، فنزل في نفر يسير، ووصل إلى الكامل، فاعتقله إلى أن سلم مدينة حماة وقلعتها إلى أخيه الأكبر الملك المظفر، وبقي بيده قلعة بارين، فإنها كانت له، وكان هو كالباحث عن حتفه يظلفه.

.ذكر حصر جلال الدين خلاط وملكها:

وفي هذه السنة، أوائل شوال، حصر جلال الدين خوارزم شاه مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف، وبها عسكره، فامتنعوا بها، وأعانهم أهل البلد خوفاً من جلال الدين لسوء سيرته، وأسرفوا في الشتم والسفه، فأخذه اللجاج معهم، وأقام عليهم جميع الشتاء محاصراً، وفرق كثيراً من عساكره في القرى والبلاد القريبة من شدة البرد وكثرة الثلج، فإن خلاط من أشد البلاد برداً وأكثرها ثلجاً.
وأبان جلال الدين عن عزم قوي، وصبر تحار العقول منه، ونصب عليها عدة مجانيق، ولم يزل يرميها بالحجارة حتى خربت بعض سورها، فأعاد أهل البلد عمارته، ولم يزل مصابرهم وملازمهم إلى أواخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين، فزحف إليها زحفاً متتابعاً وملكها عنوة وقهراً يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأولى، سلمها إليه بعض الأمراء غدراً.
فلما ملك البلد صعد من فيه من الأمراء إلى القلعة التي لها وامتنعوا بها، وهو منازلهم، ووضع السيف في أهل البلد، وقتل من وجد به منهم، وكانوا قد قلوا، فإن بعضهم فارقوه خوفاً، وبعضهم خرج منه من شدة الجوع، وبعضهم مات من القلة وعدم القوت، فإن الناس في خلاط أكلوا الغنم، ثم البقر، ثم الجواميس، ثم الخيل، ثم الحمير، ثم البغال والكلاب والسنانير، وسمعنا أنهم كانوا يصطادون الفأر ويأكلونه، وصبروا صبراً لم يلحقهم فيه أحد.
ولم يملك من البلاد خلاط غيرها، وما سواها من البلاد لم يكونوا ملكوه، وخربوا خلاط، وأكثروا القتل فيها، ومن سلم هرب في البلاد، وسبوا الحريم، واسترقوا الأولاد، وباعوا الجميع، فتمزقوا كل ممزق، وتفرقوا في البلاد، ونهبوا الأموال، وجرى على أهلها ما لم يسمع بمثله أحد، لا جرم لم يمهله الله تعالى. وجرى عليه من الهزيمة بني المسلمين والتتر ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في أواخر هذه السنة قصد الفرنج حصن بارين بالشام، ونهبوا بلاده، وأعماله، وأسروا وسبوا، ومن جملة من ظفروا به طائفة كثيرة من التركمان، فأخذوا الجميع، ولم يسلم منهم إلا النادر والشاذ، والله أعلم. ثم دخلت:

.سنة سبع وعشرين وستمائة:

.ذكر انهزام جلال الدين من كيقباذ والأشرف:

في هذه السنة، يوم السبت الثامن والعشرين من رمضان، انهزم جلال الدين ابن خوارزم شاه من عبد الله بن كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، قونية، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغيرها، ومن الملك الأشرف، صاحب دمشق وديار الجزيرة وخلاط.
وسبب ذلك أن جلال الدين كان قد أطاعه صاحب أرزن الروم، وهو ابن عم علاء الدن، ملك الروم، وبينه وبين ملك الروم عداوة مستحكمة، وحضر صاحب أرزن الروم عند جلال الدين على خلاط، وأعانه على حصرها، فخافهما علاء الدين، فأرسل إلى الملك الكامل، وهو حينئذ بحران، يطلب منه أن يحضر أخاه الأشرف من دمشق، فإنه كان مقيماً بها بعد أن ملكها.
وتابع علاء الدين الرسل بذلك خوفاً من جلال الدين، فأحضر الملك الكامل أخاه الأشرف من دمشق، فحضر عنده، ورسل علاء الدين إليهما متتابعة، يحث الأشرف على المجيء إليه والاجتماع به، حتى قيل إنه في يوم واحد وصل إلى الكامل والأشرف من علاء الدين خمسة رسل، ويطلب مع الجميع وصول الأشرف إليه ولو وحده، فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى علاء الدين، فاجتمعا بسيواس، وسارا نحو خلاط؛ فسمع جلال الدين بهما، فسارا إليهما مجداً في السير، فوصل إليهما بمكان يعرف بباسي حمار، وهو من أعمال أرزنجان، فالتقوا هناك.
وكان مع علاء الدين خلق كثير، قيل: كانوا عشرين ألف فارس، وكان مع الأشرف نحو خمسة آلاف فارس، إلا أنهم من العساكر الجيدة الشجعان، لهم السلاح الكثير، والدواب الفارهة من العربيات، وكل منهم قد جرب الحرب. وكان المقدم عليهم أمير من أمراء عساكر حلب يقال له عز الدين عمر بن علي، وهو من الأكراد الهكارية، ومن الشجاعة في الدرجة العليا، وله الأوصاف الجميلة والأخلاق الكريمة.
فلما التقوا بهت جلال الدين لما رأى من كثرة العساكر، ولا سيما لما رأى عسكر الشام، فإنه شاهد من تجملهم، وسلاحهم، ودوابهم ما ملأ صدره رعباً، فأنشب عز الدين بن علي القتال، ومعه عسكر حلب، فلم يقم لهم جلال الدين ولا صبر، ومرى منهزماً هو وعسكره وتمزقوا لا يلوي الأخ على أخيه، وعادوا إلى خلاط فاستصحبوا معهم من فيها من أصحابهم، وعادوا إلى أذربيجان فنزلوا عند مدينة خوي، ولم يكونوا قد استولوا على شيء من أعمال خلاط سوى خلاط، ووصل الملك الأشرف إلى خلاط وقد استصحبوا معهم من فيها فبقيت خاوية على عروشها، خالية من الأهل والسكان قد جرى عليهم ما ذكرناه قبل.